فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (10- 11):

{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}
وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ في سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} [المعنى: وما لكم أَلاَّ تنفقوا في سبيل اللَّه، وأَنتم تموتون وتتركون أموالكم، فناب منابَ هذا القول قوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض}] وفيه زيادة تذكير باللَّه وعبرة، وعنه يلزم القولُ الذي قدرناه.
وقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح...} الآية: الأشهر في هذه الآية أَنَّها نزلت بعد الفتح، واخْتُلِفَ في الفتح المشار إليه؛ فقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ والشَّعْبِيُّ: هو فتح الحديبية، وقال قتادة، ومجاهد، وزيد بن أسلم: هو فتح مكة الذي أزال الهجرة، قال * ع *: وهذا هو المشهور الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، وحكم الآية باقٍ غابرَ الدهر؛ مَنْ أنفق في وقتِ حاجة السبيل، أعظم أجراً مِمَّن أنفق مع استغناء السبيل، و{الحسنى}: الجنة، قاله مجاهد وقتادة، والقرض: السلف، والتضعيفُ من اللَّه تعالى هو في الحسنات، وقد مَرَّ ذِكْرُ ذلك، والأجر الكريم الذي يقترن به رضى وإقبال، وهذا معنى الدعاء بيا كريم العفو، أي: إِنَّ مع عفوه رضى وتنعيماً.

.تفسير الآيات (12- 13):

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)}
وقوله سبحانه: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ...} الآية، العامل في {يَوْمَ} قوله: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} والرؤية هنا رؤية عينٍ، والجمهور أَنَّ النورَ هنا هو نور حقيقة، وقد روي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمنها: أَنَّ كل مؤمن ومُظْهِرٍ للإيمان، يُعْطَى يومَ القيامة نوراً فَيُطْفَأُ نُورُ كُلِّ منافقٍ، ويبقى نورُ المؤمنين، حتى إِنَّ منهم مَنْ نورُه يضيء كما بين مَكَّةَ وصنعاءَ؛ رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَنْ نوره كالنخلة السحوق، ومنهم مَنْ نورُه يضيء ما قَرُبَ من قدميه؛ قاله ابن مسعود، ومنهم مَنْ يَهُمُّ بالانطفاء مرة وَيَبِينُ مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية، قال الفخر: قال قتادة: ما من عبد إلاَّ وينادى يوم القيامة: يا فلان، هذا نورك، يا فلان، لا نورَ لك، نعوذ باللَّه من ذلك! واعلم أَنَّ العلمَ الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر، وإذا كان كذلك ظهر أَنَّ معرفة اللَّه تعالى هي النورُ في القيامة، فمقادير الأنوار يومَ القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا، انتهى، ونحوه للغزالي، وخَصَّ تعالى بين الأيدي بالذكر؛ لأَنَّهُ موضع حاجة الإنسان إلى النور، واخْتُلِفَ في قوله تعالى: {وبأيمانهم} فقال بعض المتأولين: المعنى: وعن أيمانهم، فكأَنَّه خَصَّ ذكر جهة اليمين؛ تشريفاً، وناب ذلك مَنَابَ أَنْ يقول: وفي جميع جهاتهم، وقال جمهور المفسرين: المعنى: يسعى نورُهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور، {وبأيمانهم}: أصله، والشيءُ الذي هو مُتَّقَدٌ فيه، فتضمن هذا القولُ أَنَّهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين أكرم؛ أَلاَ ترى أَنَّ فضيلةَ عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنَّما كانت بنور لا يحملانه، هذا في الدنيا، فكيف بالآخرة؟! * ت *: وفيما قاله * ع *: عندي نظر، وأَيضاً فأحوال الآخرة لا تُقَاسُ على أحوال الدنيا!.
وقوله تعالى: {بُشْرَاكُمُ} أي: يقال لهم: بشراكم {جنات} أي دخولُ جنات.
* ت *: وقد جاءت بحمد اللَّه آثار بتبشير هذه الأُمَّةِ المحمديَّةِ، وخَرَّجَ ابن ماجة قال: أخبرنا جُبَارة بن المغلِّس، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن أبي بردة، عن أبيه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا جَمَعَ اللَّهُ الخَلاَئِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَذِنَ لاٌّمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في السُّجُودِ، فَسَجَدُوا طَوِيلاً، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ، فَقَدْ جَعَلْنَا عِدَتَكُمْ فِدَاءَكُمْ مِنَ النَّارِ»، قال ابن ماجه: وحدَّثنا جُبَارَةُ بْنُ المُغَلِّسِ، حدثنا كِثِيرُ بن سليمان: عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هذه الأُمَّةَ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، عَذَابُهَا بِأَيْدِيهَا، فَإذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُفِعَ إلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ فَيُقَالُ: هذا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ»
، وفي صحيح مسلم: «دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هذا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ» انتهى من التذكرة.
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون} قيل: {يَوْمَ} هو بدل من الأول، وقيل: العامل فيه اذكر، قال * ع *: ويظهر لي أَنَّ العاملَ فيه قوله تعالى: {ذلك هُوَ الفوز العظيم} ويجيء معنى الفوز أَفْخَمَ؛ كأَنَّهُ يقول: إنَّ المؤمنين يفوزون بالرحمة يومَ يعتري المنافقين كذا وكذا، لأَنَّ ظهورَ المرء يومَ خمول عَدُوِّه ومُضَادِّهِ أَبْدَعُ وأَفْخَمُ، وقول المنافقين هذه المقالةَ المحكية، هو عند انطفاء أنوارهم، كما ذكرنا قبل، وقولهم: {انْظُرُونَا} معناه: انتظرونا، وقرأ حمزة وحده: {انظرونا} بقطع الألف وكسر الظاء ومعناه أَخِّرُونا؛ ومنه: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} ومعنى قولهم أَخِّرونا، أي: أخِّروا مشيَكم لنا؛ حَتَّى نلتحق فنقتبسَ من نوركم، واقتبس الرجل: أخذ من نور غيره قَبَساً، قال الفخر: القَبَسُ: الشعلة من النار والسراج، والمنافقون طَمِعُوا في شيء من أنوار المؤمنين، وهذا منهم جهل؛ لأَنَّ تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا، وهم لم يقدموها، قال الحسن: يُعْطَى يومَ القيامة كُلُّ أحد نوراً على قَدْرِ عمله، ثم يؤخذ من حجر جهنم ومِمَّا فيها من الكلاليب والحسك ويُلْقَى على الطريق، ثم تمضي زمرة من المؤمنينَ، وُجُوهُهُم كالقمر ليلةَ البدر، ثم تمضي زمرة أُخرى كأضوأ كوكب في السماء، ثم على ذلك، ثم تغشاهم ظلمة تُطْفِئ نورَ المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}، انتهى.
وقوله تعالى: {قِيلَ ارجعوا وَرَاءَكُمْ} يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين لهم، ويحتمل أنْ يكون من قول الملائكة، والقول لهم: {فالتمسوا نُوراً}: هو على معنى التوبيخ لهم، أي: إنَّكم لا تجدونه، ثم أعلم تعالى أَنَّهُ يضرب بينهم في هذه الحال بسورٍ حاجز، فيبقى المنافقون في ظُلْمَةٍ وعذاب.
وقوله تعالى: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} أي: جهة المؤمنين {وظاهره}: جهة المنافقين، والظاهر هنا: البادي؛ ومنه قول الكُتَّابِ: من ظاهر مدينة كذا، وعبارة الثعلبيِّ: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ}: وهو حاجز بين الجنة والنار، قال أبو أمامة الباهليُّ: فيرجعون إلى المكان الذي قُسِّمَ فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم، وقد ضُرِبَ بينهم بسور، قال قتادة: حائط بين الجنة والنار، له باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة}، يعني: الجنة، {وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب} يعني النار، انتهى، قال * ص *: قال أبو البقاء: الباء في {بِسُورٍ} زائدة، وقيل: ليست بزائدة، قال أبو حيان: والضمير في {بَاطِنُهُ} عائدٌ على الباب، وهو الأظهر لأَنَّهُ الأقرب، وقيل: على سور، أبو البقاء: والجملة صفة ل {باب} أو ل {سور}، انتهى.

.تفسير الآيات (14- 15):

{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}
وقوله تعالى: {ينادونهم} معناه: ينادي المنافقون المؤمنين: {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}: في الدنيا، فيردّ المؤمنون عليهم: {بلى}: كنتم معنا، ولكن عَرَّضْتُمْ أنفسكم للفتنة، وهي حُبُّ العاجل والقتال عليه، قال مجاهد: فتنتم أنفسكم بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} معناه هنا: بإيمانكم فأبطأتم به، حَتَّى مُتُّم، وقال قتادة: معناه: تربصتم بِنَا وبمحمد صلى الله عليه وسلم الدوائرَ، وشككتم، والارتياب: التشكك، والأماني التي غرتهم هي قولهم: سَيَهْلَكُ محمد هذا العام، سَتَهْزِمُهُ قريش، ستأخذه الأحزاب... إلى غير ذلك من أمانيهم، وطول الأمل: غرار لكل أحد، وأمر اللَّه الذي جاء هو: الفتح وظهور الإسلام، وقيل: هو موتهم على النفاق المُوجِبِ للعذاب، و{الغرور}: الشيطان بإجماع المتأولين، وينبغي لكل مؤمن أَنْ يعتبر هذه الآيةَ في نفسه، وتسويفَه في توبته، واعلم أيها الأخ أَنَّ الدنيا غَرَّارة للمقبلين عليها، فإنْ أردت الخلاص والفوز بالنجاة، فازهدْ فيها، وأقبلْ على ما يعنيك من إصلاح دينك والتزود لآخرتك، وقد روى ابن المبارك في رقائقه عن أبي الدرداء أَنَّهُ قال يعني لأصحابه: لَئِنْ حَلَفْتُم لي على رجل منكم أَنَّه أزهدكم، لأحلفنَّ لكم أنَّه خيركم، وروى ابن المبارك بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «يَبْعَثُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِهِ كَانَا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَحَدُهُمَا مَقْتُورٌ عَلَيْهِ، وَالآخَرُ مَوَسَّعٌ عَلَيْهِ فَيُقْبِلُ المَقْتُورُ عَلَيْهِ إلَى الجَنَّةِ، وَلاَ يَنْثَنِي عَنْهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى أَبْوَابِهَا، فَيَقُولُ حَجَبَتُهَا: إلَيْكَ إلَيْكَ! فَيَقُولُ: إذَنْ لاَ أَرْجِعَ، قال: وَسَيْفُهُ في عُنُقِهِ فَيَقُولُ: أُعْطِيتُ هذا السَّيْفَ في الدُّنْيَا أُجَاهِدُ بِهِ، فَلَمْ أَزَلْ مُجَاهِداً بِهِ حتى قُبِضْتُ وَأَنَا على ذَلِكَ، فَيَرْمِي بِسَيْفِهِ إلَى الخَزَنَةِ، وَيَنْطَلِقُ، لاَ يُثْنُونَهُ وَلاَ يَحْبِسُونَهُ عَنِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، فَيَمْكُثُ فِيهَا دَهْراً، ثُمَّ يَمُرُّ بِهِ أَخُوهُ المُوَسَّعُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، مَا حَبَسَكَ؟! فَيَقُولُ: مَا خُلِّيَ سَبِيلِي إلاَّ الآن، وَلَقَدْ حُبِسْتُ مَا لَوْ أَنَّ ثَلاَثَمِائَةِ بِعِيرٍ أَكَلَتْ خَمْطاً، لاَ يَرِدْنَ إلاَّ خِمْساً وَرَدْنَ على عِرْقِي لَصَدَرْنَ مِنْهُ رِيًّا» انتهى.
وقوله تعالى: {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ...} الآية: استمرارٌ في مخاطبة المنافقين؛ قاله قتادة وغيره.
وقوله تعالى: {هِىَ مولاكم} قال المفسرون: معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنَّما هي استعارة؛ لأَنَّها من حيثُ تَضُمُّهم وتباشِرُهم هي تواليهم وتكون لهم مكانَ المولى، وهذا نحو قول الشاعر: [الوافر]
............... ** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

.تفسير الآية رقم (16):

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ}: ابتداء معنى مستأنف، ومعنى {أَلَمْ يَأْنِ}: ألم يَحِنْ؛ يقال: أنى الشَّيْءُ يأني إذَا حَانَ، وفي الآية معنى الحَضِّ والتقريع، قال ابن عباس: عُوتِبَ المؤمنون بهذه الآية، وهذه الآية كانت سَبَبَ توبة الفُضَيْلِ وابن المبارك، والخشوع: الإخبات والتضامن وهي هيئة تظهر في الجوارحَ متى كانت في القلب؛ ولذلك خَصَّ تعالى القلبَ بالذكر، وروى شداد بن أَوس عنِ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الخُشُوعُ». وقوله تعالى: {لِذِكْرِ الله} أي: لأجل ذكر اللَّه تعالى ووحيه، أو لأجل تذكير اللَّه إيَّاهم وأوامره فيهم، والإشارة في قوله: {أُوتُواْ الكتاب} إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام ولذلك قال: {مِن قَبْلُ} وَإنَّما شَبَّه أهل عصر نبيٍّ بأهل عصر نبيٍّ.
وقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} قيل: معناه: أَمد الحياة، وقيل: أمد انتظار القيامة، قال الفخر: وقال مقاتل بن حيان: الأمد هنا: الأمل، أي: لما طالت آمالُهم، لا جَرَمَ قَسَتْ قلوبهم، انتهى، وباقي الآية بَيِّنٌ.

.تفسير الآيات (17- 19):

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)}
وقوله تعالى: {اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا...} الآية، مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين نُدِبُوا إلى الخشوع، وهذا ضرب مَثَلٍ، واستدعاء إلى الخير برفق وتقريب بليغ، أي: لا يبعد عندكم أَيُّها التاركون للخشوع رُجُوعُكُمْ إليه وتلبسكم به، فإنَّ اللَّه يحيي الأرضَ بعد موتها، فكذلك يفعل بالقلوب، يرُدُّهَا إلى الخشوع بعد بُعْدِهَا عنه، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابةُ والتَّكَسُّبُ من العبد بعد نفورها منه، كما يحيي الأرضَ بعد أَنْ كانت ميتة، وباقي الآية بين، و{المصدقين}: يعني به المتصدقين، وباقي الآية بين.
* ت *: وقد جاءت آثار صحيحة في الحَضِّ على الصدقة، قد ذكرنا منها جملة في هذا المختصر، وأسند مالك في الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قال: «يَا نِسَاءَ المُؤْمِنَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ إحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقاً» وفي الموطأ عنه صلى الله عليه وسلم «رُدُّواْ السَّائِلَ وَلَوْ بِظَلِفٍ مُحْْرَّقٍ» قال ابن عبد البر في التمهيد: ففي هذا الحديث الحَضُّ على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها، وفي قول اللَّه عز وجل: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] أوضح الدلائل في هذا الباب، وتصدقت عائشةُ رضي اللَّه عنها بحبتين من عنب، فنظر إليها بَعْضُ أهل بيتها فقالت: لا تَعْجَبْنَ؛ فكم فيها من مثقال ذرة، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» وإِذا كان اللَّه عز وجل يُرْبي الصدقاتِ، ويأخذ الصدقةَ بيمينه فَيُرَبِّيَهَا، كما يُرَبِّي أَحَدُنَا فَلَوَّه أَوْ فَصِيلَهُ فما بالُ مَنْ عَرَفَ هذا يَغْفُلُ عنه! وما التوفيق إلاَّ باللَّه، انتهى من التمهيد، وروى ابن المبارك في رقائقه قال: أخبرنا حرملة بن عمران أَنَّهُ سَمِعَ يزيد بن أبى حَبِيبٍ يحدِّثُ أَنَّ أبا الخير حدثه: أَنَّه سمع عقبة بن عامر يقول: سَمِعْتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلُّ امْرِئ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَل بَيْنَ النَّاسِ» قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يومٌ إلاَّ تصدق فيه بشيء، ولو كَعْكَةً أو بَصَلَةً أو كذا، انتهى، و{الصديقون}: بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق؛ على ما ذكر الزَّجَّاج.
وقوله تعالى: {والشهداء عِندَ رَبِّهِمْ}: اخْتُلِفَ في تأويله فقال ابن مسعود وجماعة: {والشهداء}: معطوف على: {الصديقون} والكلامُ متَّصل، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وَصَفَ اللَّه المؤمنين بأَنَّهم صديقون وشهداء، فَكُلُّ مؤمن شهيد؛ قاله مجاهد، وروى البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ»، وَتَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآية وإنَّما خَصَّ صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم؛ لأَنَّهُم في أعلى رتب الشهادة؛ أَلاَ ترى أَنَّ المقتولَ في سبيل اللَّه مخصوصٌ أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به، وقال بعضها: {الشهداء} هنا: من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، فكأَنَّه قال: هم أهل الصدق والشهداءُ على الأمم، وقال ابن عباس، ومسروق، والضحاك: الكلام تامٌّ في قوله: {الصديقون}، وقوله: {والشهداء}: ابتداءٌ مستأنف، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها: معنى الآية: والشهداءُ بأنَّهم صديقون حاضرون عند ربهم، وعَنَى بالشهداء الأنبياء عليهم السلام.
*ت*: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية، وقال بعضها: قوله: {والشهداء} ابتداء يريد به الشهداءَ في سبيل اللَّه، واستأنف الخبر عنهم بأَنَّهم: {عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} فكأَنَّه جعلهم صِنْفاً مذكوراً وحده.
* ت *: وأبينُ هذه الأقوال الأوَّلُ، وهذا الأخيرُ، وإنْ صَحَّ حديث البَرَاءِ لم يُعْدَلْ عنه، قال أبو حيان: والظاهر أَنَّ {الشهداء} مبتدأ خبره ما بعده، انتهى.
وقوله تعالى {وَنُورُهُمْ} قال الجمهور: هو حقيقة حسبما تقدم.

.تفسير الآية رقم (20):

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)}
وقوله سبحانه: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} هذه الآيةُ وعظ، وتبيين لأمر الدنيا وَضَعَةِ منزلتها، والحياة الدنيا في هذه الآية: عبارة عن الأشغال والتصرفاتِ والفكرِ التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأَمَّا ما كان من ذلك في طاعة اللَّه تعالى، وما كان في الضرورات التي تقيم الأود وتعينُ على الطاعات فلا مدخلَ له في هذه الآية، وتأملْ حالَ الملوك بعد فقرهم، يَبِنْ لك أَنَّ جميعَ ترفهم لَعِبٌ ولهو، والزينة: التحسين الذي هو خارج عن ذات الشيء، والتفاخرُ بالأموال والأنساب وغيرُ ذلك على عادة الجاهلية، ثم ضرب اللَّه عز وجل مَثَلَ الدنيا، فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ...} الآية: وصورة هذا المثالِ أَنَّ الإنسانَ ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك، فيشُبُّ في النعمة، ويقوى، ويكسب المال والولد، ويغشاه الناسُ، ثم يأخذُ بعد ذلك في انحطاطٍ، ويشيب، ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموتُ، ويضمحلُّ أَمرهُ، وتصيرُ أمواله لغيره، وتتغير رُسُومُه؛ فأمره مِثْلُ مطر أصاب أرضاً، فنبت عن ذلك الغيثِ نباتٌ معجب أنيق، ثم هاج، أي: يبس، واصْفَرَّ، ثم تحطم، ثم تفرق بالرياح واضمحل.
وقوله: {أَعْجَبَ الكفار} أي: الزراع؛ فهو من كَفَرَ الحَبَّ، أي: ستره، وقيل: يحتمل أَنْ يعني الكفار باللَّه، لأَنَّهم أَشَدُّ إعجاباً بزينة الدنيا، ثم قال تعالى: {وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ...} الآية: كأنَّه قال: والحقيقة هاهنا، وذكر العذابَ أَوَّلاً؛ تَهَمُّمَاً به من حيث الحذر في الإنسان، ينبغي أَنْ يكونَ أولاً، فإذا تحرز من المخاوف مَدَّ حينئذ أمله، فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه، وهو المغفرة والرضوان، وعبارة الثعلبيِّ: {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يجفُّ {وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ}: لأعداء اللَّه {وَمَغْفِرَةٌ}: لأوليائه، وقال الفَرَّاءُ {وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ} أي: إمَّا عذاب شديد، وإمَّا مغفرة {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور}: هذا تزهيد في العمل للدنيا، وترغيبٌ في العمل للآخرة، انتهى، وهو حسن، وعن طارق قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا لآِخِرَتِهِ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ صَدَّتْهُ عَنْ آخِرَتِهِ، وَقَصَّرَتْ بِهِ عَنْ رِضَا رَبِّهِ، فَإذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيا قَالَتِ الدُّنْيَا: قَبَّحَ اللَّهُ أَعْصَانَا لِرَبِّهِ» رواه الحاكم في المستدرك، انتهى من السلاح، ولا يشك عاقل أَنَّ حُطَامَ الدنيا مُشْغِلٌ عنِ التأهب للآخرة؛ قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب فضل العلم: وقد رُوِيَ مرفوعاً: «لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ» قال أبو عمر: ثم نقول: إنَّ الزهد في الحلال، وترك الدنيا مع القدرة عليها أفضلُ من الرغبة فيها في حلالها، وهذا ما لا خلافَ فيه بين علماء المسلمين قديماً وحديثاً، والآثار الواردة عنِ الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر والزهد فيها، وفَضْل القناعة، والرضا بالكفاف، والاقتصارِ على ما يكفي دون التكاثر الذي يُلْهِي ويُطْغِي: أكثر من أَنْ يحيط بها كتاب، أو يشمل عليها باب، والَّذِينَ زوى اللَّه عنهم الدنيا من الصحابة، أكثرُ من الذين فتحها عليهم أضعافاً مضاعفةً، وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أَنَّهُ لما حضرته الوفاةُ بَكَى بُكَاءً شديداً، وقال: كان مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ خيراً مِنِّي؛ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَتْرُكْ ما يُكَفَّنُ فيه، وَبَقِيتُ بعده حتى أَصَبْتُ من الدنيا وأصابت مِنِّي، ولا أحسبني إلاَّ سَأُحْبَسُ عن أصحابي بما فتح اللَّهُ عليَّ من ذلك، وجعل يبكي حتى فاضتْ نفسه، وفارق الدنيا رحمة اللَّه عليه، فإنْ ظَنَّ ظانٌّ جاهل أَنَّ الاستكثار من الدنيا ليس به بأس، أو غلب عليه الجهل؛ فَظَنَّ أَنَّ ذلك أفضل من طلب الكفاف منها، وشُبِّهَ عليه بقول اللَّه تعالى:
{وَوَجَدَكَ عَائِلاً فأغنى} [الضحى: 8] فيما عَدَّده سبحانه على نبيِّه صلى الله عليه وسلم من نعمه عنده فَإنَّ ذلك ليس كما ظَنَّ؛ بل ذلك غنى القلب، دَلَّتْ على ذلك الآثارُ الكثيرة؛ كقوله عليه السلام: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَإنَّما الغِنَى غِنَى النَّفْسِ» انتهى.